يقدم مقياس النيل، الكائن في منطقة في حي منيل الروضه بالقاهرة، للباحثين في شؤون الري والزراعة، إحصاءات دقيقة حول حركة تدفق مياه النهر الخالد، وتنبؤات كانت تحمي العديد من القرى المصرية القابعة على ضفتي النيل من الفيضان
مقياس النيل
يقدم مقياس النيل، الكائن في منطقة في حي منيل الروضه بالقاهرة، للباحثين في شؤون الري والزراعة، إحصاءات دقيقة حول حركة تدفق مياه النهر الخالد، وتنبؤات كانت تحمي العديد من القرى المصرية القابعة على ضفتي النيل من الفيضان، لكنه إلى جانب ما كان ولا يزال يقدمه من خدمات جليلة لدورات الري والزراعة في البلاد، يظل واحدا من أجمل نماذج العمارة التي عرفتها مصر منذ ما يزيد على سبعة قرون من الزمان.
معمار فريد
لا يعرف أحد على وجه الدقة، متى بني مقياس النيل الفريد في بنائه ومعماره، على الجهة الجنوبية الشرقية لجزيرة الروضة في القاهرة، لكن كثيرا من الباحثين في فنون العمارة الإسلامية، يقولون بأنه يعد ثاني أقدم أثر إسلامي أنشئ في مصر، بعد جامع عمرو بن العاص، وهو ما يرجح أن يكون قد بني في عصر الخليفة العباسي المتوكل على الله، الذي استمرت فترة حكمه خلال الفترة من 232 حتى 248 هجرية، وقد أطلق عليه حينذاك عدة أسماء من بينها "المقياس الهاشمي" أو "المقياس الكبير"، قبل أن تستقر التسمية عند "مقياس الروضة" نسبة إلى الجزيرة الكائن بها، في منطقة المنيل.
ويشير العديد من المراجع التاريخية إلى أن مقياس النيل الحالي في منطقة منيل الروضة، سبقته مبان أخرى خصصت لنفس الغرض، من بينها المقياس الذي بناه أسامة بن زيد التنوفي، عامل الخراج في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، وكان ذلك في العام 92 هـجرية، قبل أن يبطل الخليفة سليمان بن عبد الملك العمل بهذا المقياس، وينشئ واحدا غيره بعد خمس سنوات، وقد استمر هذا المقياس في العمل، حتى قام الخليفة العباسي المتوكل ببناء المقياس الحالي، ويستدل المؤرخون في ذلك على ما ذكره "ابن خلكان" من أن اسم الخليفة المتوكل كان منقوشا على شريط من الحجر، كان يحيط بأعلى فوهة البئر الخاصة بالمقياس، قبل أن يتهدم هذا الجزء من البناء.
تاريخ الانشاء
ويحار العديد من الروايات التاريخية في اسم المهندس الذي قام ببناء هذا المقياس التاريخي للنيل في مصر، حيث يذهب بعض الروايات إلى أن البناء يرجع إلى مهندس عراقي كان يدعى محمد بن كثير الفرغاني، فيما تقول روايات أخرى إن البناء يرجع إلى أحمد بن محمد الحاسب، المعروف باسم أحمد بن كثير الفرغاني، وهو ما يعني أنه شخص واحد، هو نفسه أحمد بن المدبر الذي ولي خراج مصر خلال فترة حكم المتوكل العباسي، وتدلل تلك الروايات على صحتها بأن قبر صاحب المقياس لا يزال موجودا حتى الآن بجوار ضريح الإمام الليث بن سعد، وقد كتب على شاهد القبر لوحة رخامية تقول إنه قبر "أحمد بن محمد الحاسب مهندس المقياس".
ينظر كثير من المعماريين إلى الموقع الذي بني عليه المقياس، باعتباره موقعا عبقريا تم اختياره بعد دراسات مدققة ووافية لمجرى النيل واتجاهات ترسباته، ولعل ذلك ما يفسر إلى حد كبير، كيف استمر هذا المقياس يؤدي عمله لقرون من الزمان، من دون أن تؤثر فيه حركة مياه النهر وما تخلفها من ترسبات للطمي، وقد ساعد الموقع كثيرا الموظف المختص بتلك المهمة- الذي كان يطلق عليه في الزمان الغابر اسم "صاحب المقياس"- أن يؤدي دوره على مدار قرون من الزمان، دون مشاكل تذكر، حيث كان يقوم هذا الموظف بقياس ارتفاع المياه عصر كل يوم، ويقارن مستوى الزيادة في الماء يوميا، ويدون كل ذلك في سجل كان يرفع إلى أولي الأمر، الذين كانوا يتكتمون أمر انخفاض مستوى المياه في النيل حتى لا يصاب الناس بالهلع، ويتكالبون على الأسواق لتخزين الأطعمة تحسبا لارتفاع الأسعار.
ويتكون مبنى مقياس الروضة من جزأين، أحدهما القبة وهي التي تخص الجزء الظاهر فوق الأرض، وهي عبارة عن قبة مخروطية الشكل تقترب كثيرا من هيئة القلم الرصاص، مزخرفة من الداخل بزخارف نباتية، إلى جانب بعض الزخارف المذهبة التي تدعو للخديوي عباس حلمي الأول الذي بنى هذه القبة وما تضمه من نوافذ عدة مصنوعة من خشب الخرط بأطر مذهبة.
وتعد البئر هي الجزء الرئيس والأهم في المقياس، ويستطيع الزائر أن يصل إليها عبر مجموعة من السلالم تبدأ من قمة البئر وتنتهي عند القاع، حيث تتخذ بئر المقياس من الداخل شكل المثلث المقلوب، وينقسم مسقطها إلى مستويين، الأول دائري يعلوه مسقط مربع طول ضلعه أكبر من محيط دائرة المستوى الأول، ثم المستوى الثاني ومسقطه مربع، وطول ضلعه أكبر من طول ضلع المربع الأول، ويضم المستويان مجموعة من النوافذ التي يدخل عن طريقها ماء النيل إلى البئر، لقياس منسوبها عن طريق "عامود المقياس" الذي يبلغ طوله 12.5 متر، وهو مقسم إلى عدة تدريجات تعطي في مجموعها دلالة على ارتفاع أو نقصان المياه، وتصل هذه التدريجات إلى نحو 18 ذراعا، كل ذراع منها مقسم إلى 24 إصبعا، وذلك بهدف الحصول على قراءة صحيحة على عامود القياس.
الدور الاقتصادي
لعب مقياس النيل دورا اقتصاديا كبيرا على مدار قرون في مصر، فعلى ضوء القراءات التي كان يقدمها لحركة تدفق المياه في النهر، كانت تتخذ السياسات الزراعية، ومعرفة مساحة الأراضي التي سوف تتم زراعتها في كل موسم، بل وأنواع المحاصيل التي سوف تزرع، ومن ثم حجم "الخراج" الضرائب التي كانت تحصلها الدولة من المزارعين.
يتصدر مبنى المقياس تمثال منحوت من الجرانيت لبانيه وصاحب خراج مصر، أحمد بن كثير الفرغاني، وهو يحمل في يده آلة البرجل الهندسية، في إشارة إلى الدقة التي بني بها هذا المقياس، الذي يتصل بالنيل بواسطة ثلاثة أنفاق، يصب ماؤها مباشرة في البئر عبر ثلاث فتحات في الجانب الشرقي، ويقول معماريون إن هذه الأنفاق بنيت في هذا الموقع حتى يظل الماء ساكنا في البئر لسهولة القياس، حيث إن حركة المياه في النيل تسير من الجنوب إلى الشمال، وبالتالي لا يوجد اتجاه حركة للمياه في الناحية الشرقية والغربية.
إرسال تعليق