هذا الكتاب ليس وفاء من ابن لأبيه فحسب، لكنه وفاء من جيل لجيل أيضا، ذلك أن ما سطره الفدائيون، من أبناء مدن القناة بشكل عام، والإسماعيلية بشكل خاص، من بطولات في مقاومة الاحتلال البريطاني، وما قدموه من تضحيات بالروح والنفس والمال، لا يزال محفورا بقوة في الذاكرة الحية للشعب المصري، ولا يزال عصيا على النسيان.
يختزل الأديب والصحفي الكبير نحاس راضى، أكثر من مائتين وخمسين صفحة، بخلاف ملاحق الصور والوثائق، التي يتضمنها كتاب صديقنا عبد الله كوماندوز، "شزام" الصادر عن دار المصري للنشر والتوزيع، في تلك المقدمة البليغة، التي تسحب القارئ بنعومة، للغوص بين دفتي هذا الكتاب الممتع، وما يتضمنه من حكايات حول نضال أهالي منطقة القناة، تلك التي مازالت حاضرة في الذاكرة الشعبية، رغم مرور أكثر من نصف قرن، وتتوارثها الأجيال مثل شعلة نار مقدسة، جيلا بعد جيل.
هو كتاب ممتع، لأن مؤلفه على حداثة عمره، وضيق تجربته المهنية والإنسانية، لم يركن إلى السهل عند التعاطي مع هذا اللون من الكتابة التاريخية، لكنه مزج ما بين الروائي والتاريخي، بأسلوب شديد اللين والجاذبية في آن، ليقدم للقارئ سياحة أدبية راقية، في تاريخ واحدة من أهم المناطق الجغرافية في مصر، تلك المنطقة التي شهدت على مر التاريخ، العديد من الأحداث الكبرى، التي لعبت الدور الأبرز في تغيير مصائر دول وإمبراطوريات، كانت لا تغرب عنها الشمس، قبل أن يطفئ وهجها، فدائيون بأسلحتهم البسيطة، يرقى بعضهم إلى درجة الأساطير.
الذين يدخلون إلى عقدهم الخامس في الإسماعيلية، يعرفون محمد محمود خليفة الشهير بـ"شزام"، ويحفظون قصته عن ظهر قلب، إذ لا تزال صورته حاضرة رغم الغياب، وهو ينطلق في شوارع المدينة فوق دراجته الهوائية، مرتديا ملابس الصاعقة، يستنهض الهمم في مختلف المناسبات الوطنية، ويداعب المارة وهو يضرب بقبضة يده على صدره "كوماندوز حديد"، غير عابئ بسنوات عمره التي تجاوزت السبعين، ولا ملامح تلك الشيخوخة البهية التي تسللت إلى جسد، ظل يحتفظ بسمته الرياضى، حتى الأيام الأخيرة من حياته، قبل أن يواري الثرى في رمال بلاد طالما دافع عنها، وحمل السلاح من أجلها، حتى إذا هدأ غبار المعارك، وحان وقت توزيع الغنائم، آوى إلى بيته الصغير، يروي لأبنائه ومحبيه، فصولا من تاريخ تليد، وحكايات عن مجد عظيم صنعه البسطاء بسواعدهم، وجنى ثماره تجار وسماسرة الحروب.
توفي شزام في سبتمبر من عام 2015، بعد رحلة مرض قصيرة، إذ نقل إلى المستشفى الجامعي بالإسماعيلية، لإجراء عملية جراحية خطيرة، لم يتحملها، ويروي عبد الله ابنه تلك اللحظات الأخيرة من حياته، وكيف أنه ظل رابط الجأش في مواجهة موت طالما لاقاه كثيرا، يرد على أسئلة الطبيب، وهو تحت تأثير المخدر قائلا: أيوة ... أنا محمد محمود خليفة، فدائي مدني وقائد مجموعات المقاومة الشعبية، عبرت القنال أربع مرات وأسرت سبعة من الصهاينة، أربعة منهم في حرب الاستنزاف، وثلاثة في حرب أكتوبر.. لا خوف من لقاء الله.
إرسال تعليق