يظل تنظيم عبد الناصر الطليعي، احد اهم التنظيمات السياسية التى ظهرت فى مصر خلال القرن الماضي، برغم ما تعرض له نظام عبد الناصر السياسى من انتقادات حادة، واتهام فترة حكمه بالديكتاتورية وحكم الفرد
تنظيم عبد الناصر الطليعي
منذ أن قررت الثورة حل الأحزاب في 16 يناير 1953 شهد اتاريخ العمل السياسي في المجتمع المصري ثلاثة تنظيمات،عبرت كل منها عن مرحلة من المراحل التي مرت بها الثورة ومر بها هذا المجتمع: هيئة التحرير والتي امتد عمرها منذ هذا التاريخ وحتى انتهاء العدوان الثلاثي، والاتحاد القومي الذي ولد في أعقاب هذا العدوان، وحتى مرحلة قرارات يوليو الاشتراكية وانفصال سورية عن مصر وصدور ميثاق العمل الوطني في العام 1962، الذي رسم ابعاد التنظيم الثالث وهو الاتحاد الاشتراكي العربي، ولكل تنظيم في كل مرحلة طبيعته ودوره.
هيئة التحرير
في 23 يناير 1953 وخلال احتفالات أقيمت بمناسبة مرور ستة اشهر على قيام ثورة يوليو أعلن جمال عبد الناصر في خطاب له بميدان الاسماعيلية في القاهرة ـ ميدان التحرير الآن ـ قيام هيئة التحرير، لتكون هذه الهيئة أول تنظيم مدني للثورة،
الهيئة التي سبقها الإعلان الدستوري الصادر في 16 ـ 17 يناير 953 بحل الأحزاب جعلت شعارها: الاتحاد والنظام والعمل، و"افتتح المقر الرئيسى للهيئة فى ثكنات الحرس الملكى فى ميدان عابدين فى 6 فبراير 1953 ".
وأصبحت هيئة التحرير التنظيم السياسي الشعبى الوحيد الذى ولدته ثورة يوليو، وحرص عبد الناصر فى خطاباته على تأكيد أن الهيئة ليست حزبا سياسيا يجر المغانم على الأعضاء أو يستهدف شهوة الحكم والسلطان، وإنما هى أداة لتنظيم قوى الشعب، ولعبت هيئة التحرير دورا هاما فى حشد الجماهير. " إن أيسر ما يقال في تأييد هيئة التحرير أنها طريق للعمل مفتوح أمام المصريين أجمعين، فهي ليست كيانا ينتفع بمزايا منفردة دون غيره، ويتعصب أفراده لهذا الرأي دون ذاك، وهي ليست جمعية خاصة للإصلاح الاجتماعي أو النهوض بهذه أو تلك من جوانب الحياة المصرية ..... بل هي مصر كلها منظمة في هيئة واسعة متشعبة الجوانب ، متعددة وجوه النشاط، وأيا ما كان المصري، وأيما كانت نزعاته وميوله، فهو واحد في هيئة التحرير سبيلا للعمل والخدمة والانتاج"
ومن المهم هنا أن نذكر ما أعلنه جمال عبد الناصر في المؤتمر السياسي العام لهيئة التحرير الذي انعقد في ميدان التحرير يوم 16 سبتمبر 1953 حيث قال "إن هذه الثورة لن تتخلى عن مكانها حتى تحقق هدفها الأكبر، وهو القضاء على الاستعمار وأعوانه من الخونة المصريين، مهما طال الأمد فهي معركة واحدة، بدأناها ولن نعرف فيها زمانا ولا مكانا حتى تتطهر البلاد من المستعمرين والخونة، ........ وعندئذ ستتعلم الأحزاب أن تنشأ على قواعد جديدة من أجل مصر، وليس من أجل حفنة من الناس المضللين" ومن المهم أن نتذكر أيضا ما نقله الصحفي الهندي كارانجيا عن عبد الناصر في 10 مارس 1957 جوابا على سؤال له حول الدستور الجديد، وهل يعتزم عبد الناصر إقامة ديموقراطية كاملة قائمة على حق الانتخاب: " إنني أريد قبل كل شيء أن أوفر للشعب وخاصة الفلاح والعامل حرية اجتماعية واقتصادية، لأن الديموقراطية السياسية دون هذه الاحتياجات الجوهرية لن تؤدي إلا إلى التضليل ... واستطرد الرئيس فأعرب عن ثقته بأن الزعماء الوطنيين المخلصين سينتخبون، وأن البرلمان ستقوم فيه تكتلات ومجموعات، وربما تكون فيه معارضة في المدى الطبيعي للأحداث، كما تبرز بعد ذلك طبعا قوى سياسية جديدة ومن المحتمل أن تكون هناك أحزاب" .
وأثناء هذه الفترة الانتقالية المحددة بثلات سنوات، تغير نظام الحكم وأدواته، بفعل عدد من الأسباب من بينها جلاء الانجليز عن مصر نهائيا، تأميم قناة السويس، ودحر العدوان الثلاثى، تمصير أملاك الأجانب الذين رحلوا مع العدوان، وتحقق الاستقلال ناجزا، وصار هدف التنمية ملحا، باعتبار التنمية سبيلا لاخراج الوطن والأمة من حالة التخلف، وترافق مع هذه الانجازات ما صنعته سياسة جمال عبد الناصر على المستوى الدولي في مؤتمر باندونغ، ومعركة الأحلاف العسكرية، وكسر احتكار السلاح توكيدا للاستقلال الارادة الوطنية.
كان هذا كله تعبيرا عن مرحلة جديدة توجت داخل مصر بإعلان الدستور الجديد فى يناير 1956، وجاء انتخاب جمال عبد الناصر في 25 يناير 1956 رئيسآ من خلال الاستفتاء العام وبإرادة شعبية جارفة أمرا طبيعيا ومنتظرا.
وفى أواخر عام 1956، عقد مجلس قيادة الثورة اجتماعا مغلقا فى إحدى دور العرض بوسط القاهرة وأصدر قرارا بحل مجلس قيادة الثورة على أساس أنه حقق مهامه الخاصة بالاستيلاء على السلطة، وتوطيد دعائم النظام الثورى. ومع هذه الانجازات أعلن عبد الناصر أن السنوات الثلاث التي مضت مكنت الثورة من القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وتم هدم وتصفية للرجعية والاستعمار وأعوان الاستعمار، ونص الدستور الجديد الذي أنهى المرحلة الانتقالية على تشكيل تنظيم سياسي جامع باسم الاتحاد القومي يحل محل هيئة التحرير.
الاتحاد القومي
ويهدف الاتحاد القومي إلى تحقيق الديمقراطية السليمة، فهو يجعل لكل عضو فى لجان القرى حق مناقشة ما يهم قريته كأحد مواطنى القرية، وما يهم البلاد كلها، والأهم من ذلك أن الاتحاد القومى سيعمل على تخطيط السياسة العامة للبلاد، وستقوم الحكومة بتنفيذ هذا التخطيط.
لم يمض على البدء بإقامة الاتحاد القومي غير أربعة عشر شهراـ وهي فترة قصيرة جدا ـ حتى جاءت ولادة الجمهورية العربية المتحدة في فبراير 1958، وهي دولة الوحدة التي جمعت مصر مع سوريا، والتي عملت على توحيد البنية السياسية في البلدين بحل الأحزاب في سوريا ـ وكان هذا أحد شروط جمال عبد الناصر لقبول الوحدة ـ وتعميم تجربة الاتحاد القومي.
ومع الوحدة دخلت الجمهورية العربية المتحدة في أتون معركة شرسة تجمعت فيها قوى عظمى وقوى عربية واقليمية، وبات على دولة الوحدة ونظامها السياسي أن يواجه هذا الوضع الجديد، في خضم مشوارها لتحقيق أهدافها.
ولم يدرك كثيرون حينها حجم التآمر الإقليمي والعالمي على هذه الوحدة، وأن العمل على فصلها كان هدفا مباشرا لهذه القوى، لاعتبار أن في نجاح الوحدة تهديد مباشر لمصالحهم ووجودهم، وقد كشفت الوثائق بعضا من أوجه هذا التآمر:
(ورد في تقرير مجلس الأمن القومي الأمريكي بتاريخ 24 كانون الثاني / يناير 1958 ما يفيد بإبلاغ الملك حسين والرئيس كميل شمعون رسالة مضمونها أن آثار الوحدة المصرية السورية ستكون خطيرة بالنسبة الى الأردن ولبنان، وأن الولايات المتحدة تود مساعدتهما في التصدي لهذه الأخطار، وأنها ترى ضرورة تشاور البلدين مع العراق لتوحيد جهودهما في مواجهة الوحدة المزمع عقدها، وأن ذلك يتطلب معرفة موقف الأردن ولبنان قبل تقرير طريقة الدعم الذي ستوجهه الولايات المتحدة لهما.
والملاحظ أن الدولتين أبدتا الموافقة والتعاون مع العراق، لتكوين تكتل عربي لمواجهة الوحدة السورية المصرية، ففي حين أكد الرئيس كميل شمعون أن "لبنان سيؤيد أي تحرك تقوم به الدول العربية في مواجهة تلك الوحدة"، فقد ذكر الملك حسين أن" الأردن سيتعاون مع البلاد العربية التي تتبنى نفس الرأي بشأن الوحدة ، ونوه الى أن حكومته على اتصال بالعناصر المعارضة للنظام السوري)
وإلى جانب الالتزام بالاستقلال الوطني والعدل الاجتماعي ـ وقد عبرت مصر ثم الجمهورية العربية المتحدة عن هذين الهدفين بسياسات شتى كان أهمها رفض الانجرار إلى أي تحالفات تلبية لحاجات القوى الكبرى والانقسام الدولي، والالتزام بسياسة الاصلاح الزراعي ـ كانت التنمية هدفا رئيسيا لثورة يوليو، وبالتالي لدولة الوحدة وللجمهورية العربية المتحدة، وقد أدت نتائج تأميم قناة السويس "وهو أول قرار سيادي تتخذه حكومة عربية وتدرجه في النظام الدولي" ثم هزيمة قوى العدوان الثلاثي، إلى ولادة قطاع عام مهم تخلف عن تمصير الشركات والمؤسسات والأملاك الخاصة بدول العدوان كان عنوانه المؤسسة الاقتصادية التي صدر بانشائها القانون رقم 20 مطلع العام 1957، والتي اعتبرت إطار الملكية العامة في تلك المرحلة التي يقوم عليها تحقيق نصيب الدولة في تحقيق هدف التنمية
لقد كانت الرؤية لمعركة السويس وطبيعتها ونتائجها واضحة للقيادة الثورة، وكانت مدماكا استندت إليه في التحرك في اتجاه التنمية والعدالة معا " إن السؤال الذى طرح نفسه تلقائياً غداة النصر العظيم فى السويس؛ هو لمن هذه الإرادة الحرة التى استخلصها الشعب المصرى من قلب المعركة الرهيبة؟ وكان الرد التاريخى الذى لا رد غيره؛ هو أن هذه الإرادة لا يمكن أن تكون لغير الشعب، ولا يمكن أن تعمل لغير تحقيق أهدافه."
ووضعت الثورة خطة تنمية خماسية تعتمد على القطاعين العام والخاص، للسنوات 1960 ـ 1964 باعتبار سنة 1959 سنة أساس لكن القطاع الخاص رفض بحزم المشاركة في هذه الخطة، رغم أن خطة التنمية التي طرحتها الثورة بلغت مئات الملايين من الجنيهات فإنه لم يشارك بأكثر من مليوني جنيه، وشهدت مصر ـ وقد يكون العالم ـ وللمرة الأولى إضرابا عاما من الرأسمالية المحلية عن المشاركة في مشاريع التنمية.
لقد استشعرت الرأسمالية حقيقة توجه الثورة وارتباطها بالطبقات الفقيرة وإصرارها على تحقيق العدالة الاجتماعية، فقررت الامتناع أولا، والمواجهة ثانيا، ونفذت القوى الرجعية السورية والعربية جريمة فصل سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة في 28 ايلول 1961، لتنهي بذلك، ولمطامع ذاتية ضيقة، أهم وأخطر تجربة وحدوية في العصر الحديث .
وكانت ثورة يوليو قد ردت على امتناع الرأسمالية عن المساهمة في خطة التنمية، ولهدف توفير احتياجات هذه الخطة، فأصدرت قبل جريمة الانفصال بأقل من شهرين قوانين أممت فيها عددا من المصانع والمؤسسات الاقتصادية في اقليمي الجمهورية العربية المتحدة، وعرفت هذه القوانين وما تبعها لاحقا باسم قوانين يوليو الاشتراكية.
وعبر الدكتور محمد السعيد إدريس عن هذا التطور في موقف الثورة وقائدها في هذا التوقيت بالذات بالقول " إلا أن الأمر تغير كثيرا في الفترة اللاحقة من عام 1960 ، 1961، بعد أن اصطدم عبد الناصر بالبرجوازية المالية والصناعية التي عزفت عن المشاركة في خطة التنمية، وتأكده من أنها لا تعمل لصالح المجتمع، ولكن كل ما يهمها هو صالحها الخاص، فقد تخلى عبد الناصر عن اعتناقه لنظريات التوازن، وأكد انحياز الدولة لصالح الطبقات الشعبية، وضمن الميثاق خلاصة فكره الاجتماعي ورؤيته للصراع الاجتماعي والتوازن الطبقي"
الاتحاد الاشتراكي العربي
فى 25 نوفمبر 1961، أي بعد أقل من شهرين على جريمة الانفصال أصدر عبد الناصر بيانا أعلن فيه تشكيل اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطنى للقوى الشعبية، وتكون هذا المؤتمرالذي ناقش مشروع ميثاق العمل الوطني من 1750 عضوا من بينهم 1500 جرى انتخابهم ممثلين لقوى التحالف، إضافة إلى 250 هم أعضاء اللجنة التحضيرية، وضم الأعضاء المنتخبون تمثيلا للتحالف الذي بات يمثل الوعاء الاجتماعي للثورة في هذه المرحلة، وجاء توزيعهم على النحو التالي " 379 يمثلون الفلاحين و210 يمثلون العمال و150 يمثلون الرأسمالية الوطنية، و293 يمثلون النقابات المهنية، و135 يمثلون الموظفين، و105 يمثلون أساتذة الجامعات والمعاهد العليا، و105 يمثلون الطلبة، و23 سيدة إضافة إلى أعضاء اللجنة التحضيرية". وقدم جمال عبد الناصر في أول مايو 1962 إلى المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية ميثاق العمل الوطني، وأقره المؤتمر بعد حوارات موسعه وعلنية وصدر يوم 30 يونيو، وجاء إقرار الميثاق مؤشرا على انطلاق مرحلة جديدة في حياة ثورة يوليو، وفي حياة العمل السياسي في مجتمع الثورة.
ومنذ إقرار الميثاق وحتى رحيل جمال عبد الناصر لم يحدث أي تغيير في المسار العام لثورة يوليو من حيث الأهداف والقوى والمهام، لكن المعارك التي خاضتها الثورة كانت عنيفة ومتتالية ومتعددة الجوانب، وشاركت فيها قوى اقليمية ودولية.
ما نريد أن نشير إليه هنا أن الثورة انتقلت من مرحلة الاجماع الوطني القومي القائم على قاعدة التحرر والاستقلال، والتي استدعت وجود الاتحاد القومي تنظيما شعبيا لها، إلى مرحلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي باتت تستدعي تجميع القوى المؤمنة بضرورة هذه التنمية وبأهدافها، وهنا ولد تنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي، وطرحت نظرية تحالف قوى الشعب العامل، وحددت قوى هذا التحالف بطيف واسع جدا يستوعب: العمال والفلاحين والرأسمالية الوطنية والمثقفين والجنود، ويحفظ لهذا التحالف سلامة التوجه بإعطائه العمال والفلاحين نسبة الخمسين بالمائة في المجلس التشريعي والمؤسسات ذات الصلة، ولم يبعد عن هذا الطيف الشعبي الواسع غير تحالف الاقطاع ورأس المال المستغل، وهو تحالف بدأ يزوي تدريجيا مع تقدم عملية التنمية وتصاعد خططها، ومع فقدان هذا التحالف بالتأميم، وتوسيع عملية التصنيع والاصلاح الزراعي الأساس المادي الذي كان يستند إليه.
وأصبح تحالف قوى الشعب العامل هو الشعب في عرف ثورة يوليو وقائدها ووثائقها، وبتحديده لمعنى الاستغلال أصبح عبد الناصر يفرق بين الشعب وبين أعداء الشعب "وعلى هذا فان قوى الصراع الاجتماعي تصبح محددة تحديدا موضوعيا ومفرزة إلى قوى الثورة والقوى المضادة للثورة، على أساس تلازم أو تعارض مصلحتها مع عملية التغيير الثوري"
في هذه المرحلة كانت القاهرة قد اصبحت قبلة الحركة الثورية في العالم، ومنارة لفكرها الاجتماعي ولمفهومها للعدالة الاجتماعية*، وصارت نموذجا عالميا في التنمية والتقدم، نجحت ثورة الجزائر، وتفجرت ثورة اليمن، وبدأت مسيرة تحرير اليمن الجنوبي من الاستعمار البريطاني، وظهرت آثار ثورة يوليو في مختلف المجتمعات العربية التي كانت شبه راكدة، حتى أننا رأينا حركة الأمراء الأحرار في المملكة العربية السعودية، وفي العام 1958 كاد أن يطاح بحكم العائلة الهاشمية في الأردن، وسقط الحكم الملكي الهاشمي في العراق، وفي الثامن من مارس 1963 سقط حكم الانفصال الرجعي في سوريا، وكان قبلها بقليل قد سقط حكم عبد الكريم قاسم في العراق، وهو الذي منع بتحالف شعوبي دخول هذا البلد العربي المركزي دولة الوحدة، وبدا في العام 1963 وللحظة أن وحدة عربية جديدة تضم مصر وسوريا والعرق على وشك أن تولد، واتصلت براعم الثورة على شاه ايران بثورة بالقاهرة، فصارت تتغذى من نسغها، وبدأت رايات التحرر تنتصر في الدول الأفريقية.
وظهرت القاهرة وثورتها وأزهرها منارة لكل الشعوب الاسلامية، وصارت حركة عدم الانحياز رقما يصعب تجاوزه، وعلى عكس مجلس الأمن الدولي المعبر عن هيمنة الدول الكبرى، باتت الجمعية العامة للأمم المتحدة معبرة عن هذا التوق الشعبي العالمي للتحرر والتنمية والنهوض، وحققت التنمية الوطنية أهدافها بأكثر مما كان متوقعا، وظهر السد العالي صرحا أساسيا في معركة التنمية كما كان صرحا في معركة التحرر والاستقلال، ووضعت ثورة يوليو خطة التنمية الثانية التي قدر لها أن تخرج البلاد نهائيا من عنق الزجاجة التنموية، وبدأت حركة تصنيع شاملة وحاسمة معتمدة على مصانع الحديد والصلب، وعلى مجمع الألومنيوم بنجع حمادي، وبدأت مشروعات تصنيع مشتركة طموحة مع الهند ويوغسلافيا لتصنيع الطائرات والصواريخ والمحركات النفاثة والأسلحة، وبات قطف ثمار الثورة قاب قوسين أو أدنى.
وفي إطار نظرة شاملة تبدأ بحدث تأميم قناة السويس وتنفتح على التطورات الثورية اللاحقة في عهد جمال عبد الناصر يصبح وصف جورج قرم القرن العشرين العربي وصفا صحيحا منصفا " فهذا القرن لم يبدأ ـ خلافا لما يقوله المؤرخون ـ بانهيار السلطنة العثمانية، عامي 1918 ـ 1919 ، كذلك لم يبدأ إثر انحسار المد الأوربي تحت وطأة الحرب العالمية الثانية التي حررت شطرا لايستهان به من المجتمع العربي من السيطرة الاستعمارية المباشرة، وأدت إلى نشأة جامعة الدول العربية، كلا فالقرن العشرون العربي، المطابق للقرن الرابع عشر الهجري بدأ في 26 تموز/ يوليو يوم أعلن جمال عبد الناصر من مدينة الاسكندرية المصرية العريقة بتاريخها المتوسطي تأميم قناة السويس، وقيام الخبراء المصريين بتأمين مرور السفن فيها بدل الخبراء الأجانب"
وفي هذا المسار العام اكتشفت مؤامرات داخلية، وخارجية، استهدفت هذه الثورة، وما تحققه من انجازات، كذلك اكتشفت حقيقة أن الجهاز التنظيمي للثورة وهو هنا الاتحاد الاشتراكي لم يستطع أن يجسد حركة الشارع، ولا تجاوبه القوي مع هذه المعارك، كما اكتشفت فعالية العمل التنظيمي على المستوى القومي العربي، بعدما رصدت قدرة حزب البعث العربي الاشتراكي على المناورة وعلى تخريب كل فرصة ممكنة للتقدم والانجاز، وكان هذا واضحا في سوريا والعراق ، وفي إضاعة فرصة تاريخية ثانية باستعادة الأمة لحركتها التاريخية باتجاه وحدتها السياسية، وذلك حينما تم اجهاض فرصة الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق عام 1963، كما اكتشفت الشيء نفسه في تجربتها مع حركة القوميين العرب في سوريا واليمن ولبنان وفلسطين التي وصلت في مرحلة من مراحلها إلى تصور اندماجها مع الحركة الناصرية، ثم ذهبت بعيدا باتجاه ماركسية طفولية.
وفي اتجاه تفعيل الاتحاد الاشتراكي داخليا بدأت الثورة جزئيا منذ يونيو العام 1963 وبشكل محكم منذ العام 1965 تنفيذ ما أوصى به ميثاق العمل الوطني من بناء " الجهاز السياسي أو الجهاز الطليعي" داخل الاتحاد الاشتراك "إن الحاجة ماسة إلى خلق جهاز سياسى جديد داخل إطار الاتحاد الاشتراكى العربى؛ يجند العناصر الصالحة للقيادة، وينظم جهودها ويبلور الحوافز الثورية للجماهير، ويتحسس احتياجاتها، ويساعد على إيجاد الحلول الصحيحة لهذه الاحتياجات."
وجاء التوجيه ببناء هذه الطليعة على قاعدة السرية وذلك في محاولة للإبتعاد عن الآثار السلبية الناجمة عن بناء التنظيم في ظل السلطة، وحتى لا يشعر أعضاء التنظيم الطليعي بالامتياز في انتمائهم لهذا التنظيم، وكمثل الاتحاد الاشتراكي فإن الانتماء لهذا التنظيم لم يقتصر على قوى معينة من ضمن تحالف قوى الشعب العاملة، وإنما كان المحدد لهذا الانتماء الالتزام بفكر الثورة، والفاعلية في التأثير، والقدرة على العطاء.
ويشير الرئيس عبد الناصر إلى أنه "لا بد من أن يقوم داخل التنظيم الجماهيري تنظيم آخر ملتزم تتوطد أفكاره وغاياته تكون أكثر صلابة وايمانا وقدرة على العمل، ووعيا بأهداف الثورة، وبمتطلبات النضال ليقود الجماهير ويكون وسيلة قوى الشعب العاملة لتحقيق الاشتراكية، كما أنه قلب تحالفها ... الذي يحركه ويبعث فيه الحياة"
وللهدف نفسه، هدف تفعيل الجانب الدعوي والفكري في التنظيم الطليعي، قام كمال رفعت أمين الفكر والدعوة بإنشاء جهاز دعوي أسماه" جهاز الدعاة" جمع فيه خيرة نشطاء التنظيم الطليعي الذين يملكون القدرة والإرادة في الانتقال إلى مواقع العمل، ومواقع انتشار قوى الشعب العامل لقيام بعمليات التثقيف والتحريض والتوعية، وحينما أدى وجود هذا الجهاز التنظيمي إلى احتكاكات مع التنظيم الطليعي، وطالب علي صبري بحله، استجاب كمال رفعت لهذا الطلب.
لقد ذهب البعض إلى أن "جهاز الدعاة" هو تنظيم جديد من تنظيمات ثورة يوليو، وهذا ليس حقيقيا، إذ لم ينشأ هذا الجهاز من قبل قيادة الثورة، وليس له أساس قانوني، أو فكري، وإنما كان جهازا أنشأه كمال رفعت من موقعه التنظيمي والفكري لتنشيط العمل داخل تحالف قوى الشعب العامل، وكان عناصره أعضاء في التنظيم الطليعي الذي وصلت عضويته وقت وفاة جمال عبد الناصر إلى ربع مليون عضو،حسب تقدير سامي شرف، وكانت جغرافية هذا التنظيم تغطي الداخل المصري، والخارج المصري الدبلوماسي والشعبي، وتضم قيادات بارزة في العمل التنظيمي والسياسي على المستويين الوطني والقومي، وبالتالي لهؤلاء الأعضاء مهام تنظيمية قومية يقول سامي شرف في كتابه "سنوات مع عبد الناصر"
"عند رحيل الرئيس عبدالناصر في 28 سبتمبر/ايلول 1970 كان التنظيم الطليعي قد استكمل بنيته التحتية وأقام هياكله ووصل عدد أعضائه إلى نحو ربع مليون عضو .....وكان هناك بعض الوزراء أعضاء في التنظيم ويشرفون على نشاطه وتحركه داخل وزرائهم، ومن أمثلة ذلك محمد فائق في وزارة الإعلام،أما عن الأمانة العامة للتنظيم الطليعي فقد كان أول تشكيل لمكتبها يضم كلاً من: شعراوي جمعة أحمد كامل محمد المصري أحمد حمروش محمد عروق يوسف عوض غزولي، ويعاونهم كل من أسعد خليل وعادل الأشوح . وقد كانت هناك مجموعات من أعضاء التنظيم الطليعي من الذين يتم تجنيدهم في الخارج، وكانت هذه المجموعات، بالإضافة إلى مجموعات السفارات المصرية في الخارج، يُطلق عليها “تنظيم الخارج”، وكنت أتولى قيادة ومسؤولية هذه المجموعات،، ومن أهم وأنشط هذه المجموعات والتي قامت بتنفيذ مهام وطنية وقومية في مختلف المناسبات على مدى سنوات تقارب من السبع، كانت تلك التي نظمت في باريس ولندن وموسكو ونيويورك وواشنطن، وكان من أبرز عناصر هذه المجموعات عبدالمنعم النجار وأسامة الباز وحسام عيسى وعلي السمان وجمال شعير ومصطفى الفقي ومراد غالب وأسامة الخولي ووفاء حجازي وغيرهم
................ جزء من كتاب "تنظيم الطليعة العربية" للمفكر العربي الدكتور مخلص الصيادي
إرسال تعليق